Mangal Media

View Original

المشكلة في رموزنا: الحروب الثقافية التركية في السياق


English

Türkçe

ترجمة: أحمد الغمراوي



في ثلاثينات القرن الماضي، استولت الدولة التركية على مقبرة سورب أجوب الأرمينية في اسطنبول، واستخدمت حينها شواهد القبور لبناء مقر الإذاعة القومي والدرج المؤدي لحديقة جيزي المشهورة. لماذا تم نسيان هذا العنف، ولم يستحوذ القمع الرمزي، في أغلب الأحيان، على انتباهنا وكيف استطاع أن يطمس العنف والظلم الحقيقي؟




لقد أصبحتُ حذرا من أن أبني حججا مستندة الى مفاهيم مثل "الإعلام الغربي"، "العولمة" أو "الاستشراق"، هذه الكلمات تم استهلاكها على ألسنة مهاويس نظريات المؤامرة والأنظمة السياسية لإخفاء جرائمهم وراء جرائم دول الشمال العالمي.  ينتشر في تركيا خطاب "لعب دور الضحية" في علاقاتها بدول العالم الأول، ومع كونه خطابا محقا وله ما يبرره بكل تأكيد، فإن مشكلة هذا الخطاب أنه يكون في الغالب ملازما لنزعةٍ تريد أن تغطي على جرائم تركيا نفسها في حق أقلياتها العرقية، وتمسح ذكراها. وعادةً ما تُلازِمُ هذا الفهمَ المغلوطَ للواقع، مساويةً له في تهافُتِه، أداءاتٌ سياسية من نوعٍ ما.


في مشادتنا الدبلوماسية مع هولندا، تفتق الإبداع السياسي لكوادر الحزب الحاكم في تركيا، عن أسلوب طعن البرتقال كعمل احتجاجي. آخر صيحات هذا الـ"تريند" الجديد هذا العام كانت تحطيم الشباب الوطني الفتي لـهواتف الأيفون الخاصة بهم، كعمل يتحدون به العقوبات الاقتصادية الأميركية ضد تركيا. هذه الأداءات* النارية، غير المجدية في نهاية الأمر، تذكرني بانفجارات "أليكس جونز" الغاضبة وهو يمزق سترته ويصرخ محذرا من الضفادع المثلية**.


الفاشية المُمسرحة هذه، التي تَسِمُ أداءاتِ أمثال أليكس جونز وأنصار العدالة والتنمية أيضا، هي كذلك سمةُ خطاب نخب اليسار الليبرالي، بميلهم المتحمس إلى استخدام الخطاب لتحقير الأخصام "اليمينيين" والسخرية المقذعة منهم بالتقليل من شأنهم وتصيُّد سقْطاتهم؛ ومن أمثلة ذلك إسباغ لقب السلطان على أردوغان، أو عدم الكف عن مقارنة ترامب بالشخصية الدعائية لبطاطا الشيتوس، هذه هي طريقة اليسار الليبرالي الخاصة في التعبير عن غضبٍ عقيم! يندرج في خانة هذه الأداءات المتهافتة أيضا، قرارُ منظمة فريدوم هاوس الأمريكية الأخير، بخفض تصنيف "حالة الحريات" في تركيا من "حرة جزئيا" إلى "غير حرة". فعلى لوائح هذه المنظمة المعنية برصد حالة الحريات المدنية حول العالم، كان تصنيف تركيا ممتازاً خلال العام 2011، ذلك في الوقت الذي كانت فيه طائراتها تغير على روبوسكي بمنطقة كردستان العراق، وتقتل 34 من المدنيين، 17 منهم هم من الأطفال.


ولم يكن ليهتز تصنيف تركيا كـ"حرة جزئيا" حتى أثناء موجة العنف ضد الأكراد بعد انتخابات 2015، ليبدو من بيانات المنظمة أننا بتنا "غير أحرار" بصورة مفاجئة، مباشرةً بعد أزمة انقطاع العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية هذا العام. المشكلة مع فريدوم هاوس وأخواتها من المنظمات أن معاييرهم للتقييم ليست مدفوعة بالدرجة الأولى بهاجس المصداقية، والاكتراث حقا بحالة حقوق الإنسان في هذا البلد أو ذاك، إنما هي مرتبطة بمدى دفء علاقة تلك البلدان بأمريكا، وهذا ما سينتهي بنا إلى استخلاص الكيفية التي بها تتحصل إسرائيل على تصنيف "حرة". كلمات مثل "الحرية" أصبحت احتكارا وملكية للغربيين المزهوّين؛ يمكن لبقية العالم أن يستعيرها فقط بالكثير من الاشتراطات الصارمة.


لقد اعتدنا في أيامنا هذه، مقولة أن العالم أمسى أكثر استقطابا، كما بات شائعا أن يقال إنك تبعا لموقعك الجغرافي أو موقفك الايدولوجي، يمكنك بوضوح استشعار الاستقطابات القائمة، ما بين شعبوي وديموقراطي، ديني وعلماني، يمين ويسار، محافظ وليبرالي. كل واحد من هذه الصياغات الثنائية أصبح ممجوجاً في الآذان وقعُه، بتجوفه وفراغه من أي معنى، ولا يعود ذلك فقط إلى مجرد أن الكلمات جرى إفراغها من معناها -لشدة ما استُخدمت وجرى تداولها في البروباجاندا الغبية- ولكن أيضا لأن الرموز والشخصيات المرتبطة بهذه الأيديولوجيات المتنازعة، يمكن لها أن تتبادل استهلاك الأدوار والمفاهيم ذاتها، أوتوماتيكيا وبصورة تدعو للغثيان.

لم تُخلق هذه الفوضى الأيديولوجية بين ليلة وضحاها مع بدايات "فيسبوك"، فعدم القدرة على فهم العالم خارج إطار المعركة الأزلية بين الخير والشر، ترجع بأصولها في العقل الغربي إلى نظريات أوجستين اللاهوتية، مرورا بأيديولوجيات الحرب الباردة. كل الخبرات الإنسانية القائمة خارج هذه الثنائية، أو لا تعززها، هي مما سيتم شفطه (كما لو بمكنسة كهربائية)، من قبَل مراكز صنع السياسة والفكر ومنظمات المجتمع المدني، ومن ثم تحطيمها وتكريرها، بحيث يصير من اليسير هضمها، أي انتشارها على صعيد شعبي واسع بعد أن تكون قد عولجت بالشكل المناسب.

قوة الرموز


كنت أسكن في تايوان عام 2010 وأعمل على رسالة دكتوراه، عن العنصرية القائمة على التمييز الجنسي ضمن أوساط المغتربين البيض في تايوان، وحدث أن دُعيتُ في حينه إلى الحديث داخل مجموعة نقاش صغيرة معظم الأشخاص فيها هم من الأوربيين. واحدة من النقاط المحورية في النقاش كانت نزعة "المغترب الأبيض" لإسقاط قوالب جندرية/جنسية على السكان، من خلال قراءتهم قراءةً ترميزية اختزالية، وناقصة بشكل فادح. يحدث ذلك كلما شاهد صاحبنا الأبيض رجلاً تايوانيا يحمل عن صديقته حقيبةَ اليد خاصتها، فما أسهل الحسبة عندئذٍ، فباعتبار حقيبة اليد غرضاً من أغراض النساء، يستحق هذا الرجل الذي حمل حقيبة يد زوجته، أن نُسقط عنه لبعض الوقت صفة الذكوري، باعتباره وافق على حمل (أو ارتداء) غرض أنثوي. بناء عليه، يقاس التماهي الصحيح مع العادات الجنسية "السوية"، تماما مثلما تقاس مؤشرات مثل "الحرية". وفي المحصلة، ليست هذه الحالة لتكون أكثر من حالة 'عمى رموز'، ينسحب ذلك العمى أيضا على أي قراءة أخرى للرمز في سياقات مختلفة، كأن يُنظر لرجل يحمل حقيبة يد صديقته على أنه يتصرف بوصائية فارضا عليها سلطة أبوية متحكمة.

أثار هذا الاتهام الذي طرحتُه في حلقة النقاش، موجات من التذمر في القاعة، وبعد انتهاء النقاشات سألني شخص ألماني، عن رأيي في ارتداء النساء التركيات الحجاب.


هل يَنتقصُ من فحولة الرجال التايوانيين، حملهم حقائب يد؟ هل تتعرض المرأة التركية لقمع يفرض عليها ارتداء الحجاب؟ هذا الهوس الذاهل بكل الرموز، ليس نتاج الجهل المستشري في المجتمعات المنعزلة للمغترَبات البيضاء، يل هو على النقيض من ذلك يلعب دور المحفِّزِ لجبهة أيديلوجية تتكون من هيئات (وجامعات) مرموقة. لنأخذ على سبيل المثال، موقف الفيلسوف الماركسي المبجل على نطاق واسع، تيودور أدورنو، المعادي لموسيقى الجاز، والأشكال الأخرى من الثقافة الشعبية كالسينما وموسيقى البوب، بشراسة جعلت لمقالاته صوت ولغةَ كتابات "رودلف هيسه" في مجلة "بيتش فورك" (النازية):




"المقصد من موسيقى الجاز هو إعادة إنتاج الحركة الميكانيكية للحظة رجعية، كرمز للإخصاء. 'انسلخ عن ذكوريتك، دع نفسك للإخصاء'، الأصوات الديوثة تلك لفرقة الجاز، تستهزئ وتعلن لك أنك سوف ترضى: سيتم قبولك في أخوية تشاركك نفس حالة العقم الغامض تلك، غموض ينجلي في لحظات شعائر قبولك في تلك الأخوية".




تأملات أدورنو الناشزة تلك، كانت جزءا من صيحة ثقافية ضربت أوساط المثقفين في أوربا وأمريكا في الستينات، فقد تفتقت عقول ذلك الجيل من المفكرين عن فكرة عبقرية: مزج الأفكار والأطروحات الماركسية مع فرويد، للحصول على هذا المزيج الفاتر، في وقت كانت فيه باقي مناطق العالم، ما تزال تترنح تحت وطأة انهيار الكولونيالية، ويناضل الناس في كل مكان جاهدين في ألا تمحوَهم محواً، فظائع وويلات الحرب الباردة بين القوتين العظميَين، اللتين استثمرتا في الصراعات المسلحة بالوكالة ودعم الانقلابات العسكرية. في ذلك الوقت كان خيرة الفلاسفة الغربيين مهووسين بمزج أفكار رجلين أبيضين من الماضي، ليسموا ذلك بعدها "ثورة".


محاولة التعمق في تعرجات فلسفتهم تلك عملية مرهِقة، هؤلاء الماركسيون الجدد مهووسون بمجابهة الرمزيات المستحدثة في الثقافة الشعبية، لإيمانهم بأنها تُستغَل لصرف الأنظار عن التنوير الثوري.

فسروا ثقافة الاستهلاك المعاصرة على أنها شكل جديد من أشكال التسلط، ومنحوا ذلك اسماً: 'الهيمنة'، وهي "هيمنة تتعزز وتتحفز بالتطور الحاصل في وسائل الإعلام الحديثة، وتقوم هذه الهيمنة على أساس القبول الضمني من المهيمن عليهم، كشرط لوجودها ولاستمرارها.

وأنتجت هذه الأيديولوجيا المضادة للاستهلاك، كليشيهاتها الرمزية والحصرية أيضا: جرذان يرتدون بدل عمل رسمية، يركضون على آلات المشي، أمواتٌ أحياء ينظرون في هواتفهم الذكية، فيلم 'فايت كْلَبْ'، و إجمالي أعمال فرقة بينك فلويد.


يمكننا قطعا قول الكثير عن سحق الروح البشرية في المجتمعات الرأسمالية المتطورة، ولكن بغض النظر عن ذلك تظل هذه المعاناة، في مجملها رمزية. المعاناة والألم الناجمان عن فعل هذه المجتمعات المتقدمة (فعلها في بقية العالم) للحفاظ على شهيتها للاستهلاك، ما يزالان اليوم أكثر إلحاحا. الهوس الماركسي بمفهوم الهيمنة، هو تماما مثل أفلام حرب فيتنام الأمريكية، في تركيزها على معاناة المحاربين القدامى الأمريكيين، واختزال ضحايا عنفهم إلى عناصر باهتة عديمة الأهمية في خلفية الأحداث.


كأن هناك منطقا تآمريا هو حتمي للدخول في فهم "الهيمنة"، فجل أعمال سلافوي جيجك، تعيد وتردد باستمرار فكرة واحدة: السلطة تكون في أوج تأثيرها عندما تكون غير مرئية، نحن نكون في عين دائرة القمع وأقصى مداه، بالضبط في اللحظة التي نؤمن فيها بأننا أحرار. طريقة التفكير هذه هي من أهم الخصائص المميزة لليمين المتطرف، الذين بحسبهم فالقيم الرمزية الليبرالية مثل تعدد الثقافات والنسوية تتمركز في قلب خطةٍ شيطانية لتدمير ذكورية البيض. عوالم الانترنت المظلم الثقافية تزخر برجال وحيدين يؤمنون أن عبارةً مثل "انت زي أخويا" أكثر إيلاما من عداوة النساء والعنصرية الممنهجة، لهذا تطلق حركة حقوق الرجال على نفسها اسم "الحبة الحمراء"، حيث يؤمن هؤلاء اننا حقا نعيش في مجتمع "ما بعد-النسوية" حيث النساء أصبح لهن هيمنة حتمية غير خاضعة للمسائلة.


هذا الهوس بالقمع الخفي ورمزية الاحساس بأنك الضحية، هما تيمتان محوريتان في السياسة التركية أيضا، وبهما يستحوذ اليسار العلماني واليمين الإسلاموي على الأوساط المجتمعية. وبالرغم من صحة الطرفين في إحساسهما بأنهما ضحايا لبعضهم البعض، إلا أن كم المعاناة التي سبّبها الطرفان للآخرين لا تقارن من حيث طبيعتها أو عموميتها. لا شيء يشرح هذا كما فعلت اضطرابات 2013 في حديقة جيزي.



ماذا في الميدان؟

أسطنبول كانت تبدو مختلفة كثيرا في ثلاثينات القرن الماضي عما هي عليه الآن، المساحة الهائلة الممتدة من خلف حديقة جيزي حتى حاربيه كانت مقبرة أرمينية، وحيث توجد الحديقة بجانب ساحة تقسيم، كان هناك مبنى رائع أنشأه السلطان الإصلاحي سليم الثالث عام 1806 كمعسكر للمدفعية. اكتسبت المنطقة دلالة سياسية خلال أحداث الـ31 من مارس عام 1909، الفترة التي  شهدت تأرجح موازين القوى* ما بين الموالين للسلطان عبد الحميد الثاني، والدستوريين المنتظمين حول حزب الوحدة والتقدم، حين صادف أن كانت القوات الموالية للسلطان ترابط في منطقة تقسيم. وجود المقبرة الأرمينية أيضا تغيرت رمزيتها السياسية، فهي كانت مهداة للجالية الأرمنية من قبل السلطان سليمان القانوني عام 1560، بطلب خاص من طباخه الشخصي ‘مانوك كاراسهفريان’. فقد أنقذ مانوك السلطان من محاولة إغتيال عندما رفض المشاركة فيها، ولكن العلاقات بين المسلمين والأرمن تدهورت مع مر العقود. وبنهاية القرن الـ19، كان ينظر للأرمينيين على أنهم خونة، وتمخض عدم الثقة ذلك عن التطهير العرقي للأرمن عام 1915.


عند قيام الدولة التركية الحديثة عام 1923، كان المعسكر والمقبرة من رموز الماضي، الماضي الواجب تدميره، وكانت الدولة الشابة تعاني من حالة خاصة من عشق الاستعراض بالرموز والمظاهر. أقر البرلمان "قانون القبعة" ليمنع به استخدام الطربوش العثماني، وتم اعتماد الأبجدية اللاتينية ‘الحديثة’ لتقطع بها فهم الأجيال اللاحقة لتاريخهم الخاص، وذلك بجعلهم في حاجة (هي حاجة مستحدثة) إلى وسطاء بينهم وبين إرث أجدادهم. ووصل الأمر إلى أن نظام الحزب الأوحد ألزم المساجد بإلقاء الأذان باللغة التركية، ليكون من أول القرارات التي اتخذتها الحكومة المنتخبة ديمقراطيا عام 1950، العدول عن هذا القرار. والأكثر إثارة للدهشة هو إجبار أتاتورك حرسه الشخصي، على لعب التنس باستمرار، كما ذكر تقرير مقدم للإدارة الأمريكية عام 1931. في هذه الأثناء، كان المعسكر قد سقط من حسبان الاستخدامات العسكرية، ولفترة أصبح مساحة عامة مميزة لعروض السيرك من فترة لأخرى، وما زالت توجد حتى الآن صورة رائعة لسمكة قرش بيضاء ضبطت ببحر مرمرة، تعرض في هذه الساحة بحضور رجال ونساء من كل الأعمار، مدهوشين من الجثة المهزومة. ثم تحولت المساحة إلى استاد لكرة القدم يستضيف مباريات وطنية.


أتى المخطط العمراني الفرنسي هنري بروست إلى إسطنبول عام 1936، واستفاد من رياح التغيير في تلك الفترة ليهدم المقبرة الأرمينية ومعسكر تقسيم. في المقابل، طرح رؤية "حداثية" للمدينة بحديقة هائلة، وبدأت أعمال إنشائها خلال الحرب العالمية الثانية، حين كان الاقتصاد التركي تحت ضغط شديد، فأزيلت شواهد القبور واستخدمت أحجارها في الدرج المؤدي لحديقة جيزي، اللؤلؤة المكنونة لوجه اسطنبول الحديث، التي ليست فقط مبنية فوق جثث أقلياتها، ولكن بهم أيضا. قبل مجيء بروست، حُول معسكر المدفعية لمساحة عامة مميزة، يسيل لها لعاب مستثمري الحداثة في القرن الحادي والعشرين كمثال "لأجواء تايت للفن الحديث". مشروع 2013 لإعادة بنائها كسوق تجاري (من بين كل ما يمكن أن تكونه) كان أيضا بنفس الدافع؛ رغبات الـ1930 في محاكاة الحداثة استبدلت بمحاكاة النماذج النيوليبرالية الناشئة في التخطيط العمراني.


مظاهرات جيزي في الـ2013 اندلعت لأجل هذه المساحة العامة المثيرة للجدل، العلمانيون الذين حافظوا على السلطة تقليديا بالاستعانة بالقوات المسلحة، اشتبكوا مع المحافظين الذين يجلسون بدلا عنهم في السلطة. وخلال المظاهرات، كان الطرفان مصرَّين على كونهم الضحايا الحقيقيين لقمع الدولة التركية، والطرف الذي حقا تتعرض رموزه للتهديد. كِلا الطرفين نسيَ قمع الدولة المُمنهج بحق الأقليات العرقية والدينية، والذي تواتر تحت حكم كل حكومة عبرت. لقد لاحظنا جميعا ومضات تتجلى فيها القومية أثناء المظاهرات، تأتي غالبا مصحوبة بهتافات مهينة للمرأة والمثليين. كل حادثة من تلك الحوادث كان لها وقع سقوط النيازك على الميدان، من لم يرِد المشاركة في مثل هذه التجليات، كان عليه الارتداد إلى بيته ليتعافى قبل العودة هناك مرة أخرى.


نائبات ونواب عن الحركة الكردية كانوا عند اندلاع المظاهرات، يتفاوضون مع الحكومة لوضع خارطة طريق لعملية سلام. حتى أن صلاح الدين دميرتاش -قائد الحزب السياسي الكردي (الذي هو اليوم حزب الشعوب الديمقراطي) كان مترددا في دعمه السياسي للمتظاهرين، وأعرب عن قلقه من المجموعات القومية التي كان لها وجود كثيف في الميدان. موقفه أدين من قبل العديد من يساريي المتروبوليتانية؛ شعروا أن دميرتاش تخلى عنهم لتفضيله اتفاقية السلام على خطة تطوير اسطنبول. ومنذ الـ2013، مازالت نفس الشائعات حول دميرتاش الذي "باع"، تظهر في كل انتخابات للتقليل من وزنه السياسي في أوساط اليسار، حتى وهو مايزال قابعا في السجن.


مع ذلك، يظل من عدم الإنصاف أن نختزل مظاهرات جيزي كحركة للقوميين العنصريين، فبالرغم من كل شيء هي قد وضعت الأسس للتعاون والتنسيق (بين قوى سياسية متنوعة)، الأمر الذي أعاد الحياة للمجتمع. لكن ما يجب الآن، هو أن نتصالح مع الإشكاليات في هذه اللحظة التاريخية، فالنزاعات بشأن رموز ثانوية طغت على اهتمامنا بالعنف المُمارس بشكل منهجي (ومتواصل) على أقلياتنا. ولا نقول ذلك نفيا لأهمية الرمز، ولكن لنكشف كيف يمكن لإحساس مصطنع بكونك الضحية مستقرأ من الرموز وحدها، أن يطغى على -ويطمس- عقودا من الممارسات الوحشية الممنهجة. جيزي كانت هي المساحة الزمنية والمكانية لاصطدام الرمزيات المتقابلة، ومن خصوبة مخاض ذاك الصراع في الحديقة، شهدنا من حين لآخر لحظات ولادة رموز جديدة ومشجعة، ولكنها وُئِدت في المهد من أجل الحشد لـ"قضية أكبر".


أحد الشتلات السياسية تلك، التي قُصت من جذورها في الحديقة، كانت محاولة إحياء نصب تذكاري للقتلى الأرمن في الإبادة الجماعية. وقع مثل تلك الجملة يبدو غريبا الآن، ولكن تم بناء نصب تذكاري للقتلى الأرمن عام 1919، ثم تمت إزالته بغموض في عام 1922. شُيد النصب في المقابر الأرمينية الواسعة التي غدت اليوم حديقة جيزي، مقر الإذاعة التركية الجمهورية للراديو وبضعة فنادق. خلال المظاهرات، حاولت مجموعة من النشطاء المقاومين للعنصرية وضع شاهد رمزي للتذكير بالقديم، ولكن تم الالتفاف عليهم بعد لحظات من متظاهرين معادين وأخُمدت المحاولة.


الرموز قوية، يمكن أن توجه انتباه الرأي العام، نحو، أو بعيدًا عن، لحظات العنف الحقيقية، وهي الفكرة (القيمة) التي تجعل أشياء مثل اللغة، المعمار، والأزياء ساحة قتال حيوية للنزاعات السياسية. وهذه الأهمية الحيوية هي ما يجعلنا قادرين على نسيان ما يُرمز إليه والتعلق بهوسنا بكل ما له صلة بالرمز. حروب الثقافات في العولمة ليست على وشك الإنتهاء في أي لحظة، ولكن من المهم أن نذكِّر دائما بما نحارب لأجله.

(فالذكرى تنفع المؤمنين)

سورة الذاريات - الآية 55


*(هامش): فضلنا ترجمة performances بـالأداءات رغم إلحاح مفردتَي العروض والاستعراضات، (أو الفُرجات، جمعِ فرجة)، كبديل عن (الأداءات).

**  الضفادع المثلية هي كلمة تداولها معارضو ترامب بكثافة، وبها يشيرون إلى واحدة من تصريحات جونز الهلِعَة والهيجانية: "إنهم (الأعداء) يضعون مواد كيميائية في مياهنا، تجعل الضفادع التي تعيش في هذا الماء تتمتع بالقدرة على تحويلنا إلى مثليين، وذلك بمجرد لعق أحد هذه الضفادع، بلسانها أجسادنا".