Mangal Media

View Original

على حافة الحرب السورية: ارتماءة غير موفقة في موجة اللجوء السوري

English | Türkçe

"سلام يا جار!"
هو فيلم وثائقي، بطلاه -طبعا- رجلان أبيضان أمريكيان من الطبقة المتوسطة، قررا تحدي نفسيهما. ربما تحدي أبويهما.. ربما إحداهن أو أحدهم: ليس شيءٌ مهمّا، حين يتعلق الأمر بمغامرةٍ على وشك أن تبدأ: رحلة إلى أكبر مخيم للاجئين السوريين في الأردن، وإحدى أكبر الكثافات السكانية على مستوى العالم وبين أردئها من حيث شروط الحياة: الزعتري.

يصل الصديقان إلى المخيم مثّاقلَين إلى موقع المرح المنتظر، بعتادهما الكثير الكثير. لنلاحظ هنا، قبل أي شيء آخر، أن أيا من بطلينا أو صنّاعهما الآخرين لم يفكرْ، في أن جهدا مطلوبا بذله بخصوص تعلم اللغة العربية، أو أن ستعدادات أخرى، من المألوف والمنطقي أخذها، قبيل الانخراط في ثقافة جديدة!
ما لنا، كان العزم واضحا لديهما على عيش حياة اللاجئين.  ومتكلَين على الطعام، لا أكثر، يمضي البطلان في مسعاهما، توفر الطعام لهما مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وداخل إحدى الخيام العائدة ملكيتها إلى الوكالة، منتقاةً لتناسب احتياجات مغامرَين أبيضين يقضيان الوقت.. كلفت هذه الأخيرة -على ما نعلم من سياق الفيلم- ألف دولار أميركي (معلوم تماما بالنسبة للنشطاء السوريين والعاملين معهم أن هناك، طوال الوقت، نقصا حادا بالموارد للاجئي الزعتري). سريعا ما يدرك شخصٌ يملك قلبا، باكرا أمام فيلم هو هذا، أن لاجئي الزعتري هم الأسوأ حظا فعلا، دون منازع.

وإزاء بدايات من هذه الشاكلة، من الطبيعي أن نتوقع وليمة لحم بشري على وشك أن تبدأ. سيقترب سائحو الحرب أكثر فأكثر إلى عيّنتهما، إلى موقع الحرب الشرقأوسطية، سيستخرجون الكثير من السخرية وتوكيد الذات ههنا. لا غرابة في توقع شيء كهذا، مع ما يبدو امتدادا واضحا للثقافة الاستعمارية الأعراقية (الإثنوغرافية)، حيث يصل بطلان فيلم واقعي أبيضان إلى منصة الواقع، غير ملوَّثين بالاطلاع على أي نقد ما بعد استعماري يعكر نقاءهما..

في أول ليلة لهما، نرى (كريس) و(زاك)، يشرعان في نصب خيمتهما في مكان يصح تماما وصفه بغير المناسب: مطبخ، بالضبط حيث تجتمع النساء ويطهيْن! "لا يمكنكما النوم هنا! هناك كثير من الأماكن لنصب خيمة، فلماذا هنا؟!"، كان لاجئون -لاجئون حقيقيون- هم من أخبرهم بهذا. تسبب هذا الإشكال في الحيرة للصغيرَين الأبيضين، إذ هما جابا الآفاق إلى ههنا لمساعدة بعض السكان الأصليين.. فلم الأصليون تغضبهم النوايا الحسنة، على هذا النحو، يا ترى؟!

بعد ذلك، وغالبا كان قد حدث صرف نقودٍ لأحدهم هناك، احتفظا بخيمتهما في ذلك المكان عينه. لم يتكدرْ أي واحد من السرب الأبيض الذي هبط على بؤس الزعتري، من ذلك الحادث، ومن حقيقة أن اللاجئات مجبرات الآن، على الانتقال من فضائهن الآمن. فحقاً لم تظهر أية سيدة بعدها قرب الخيمة، التي امتدت على وسعها في المكان، وفقا لما اقتضته حاجة صانعي الأفلام، المكلِفين، هؤلاء، من المساحة وفروغ البال وتمام المشهد.

لم يكن ذلك الموقف، الوحيد من نوعه، لو كنا بصدد مسألة قسر الأهالي بصورة واضحةعلى التحرك ضد إرادتهم، إذ، حالما اكتشف الفريق، أن الفتى السوري (رؤوف) ذا الأحد عشر ربيعا، لم يرتدْ مدرسة الـ يونيسيف، الموجودة داخل المخيم، انهال عليه الضغط النفسي المبتذل، ووقحا كان بصورة مأساوية، الضيق الذي واصلوا التسبب به عمدا لـ(رؤوف)، ودون أي اكتراث لرغبته ووضع راحته ودون أي تفهم، وبلا اهتمام بأية أسباب خاصة قد تكون قذفت به في ما هو فيه، أي، في المحصلة، دون أدنى إنسانية: وصباح مساء على مدار أيام سمع رؤوف الأصوات المزعجة إياها "ياالله، يا صاح! أمامك عشر دقائق فقط للذهاب إلى المدرسة، هيا، سنذهب معا". فرْطُ -أو انفراط الإنسانية. وحده الله يعلم- أعاق إمكان مشاهدة عدم الارتياح، في عيون الفتى رؤوف، وجفْلته لدى كل بادرةٍ من جيرانه الجدد، الذين واصلوا السماجة واثقين.

 ورغما عن الحياة، حاول الرجلان مرافقة الفتى إلى المدرسة، بينما يبدي (رؤوف) نوبات شعورية قاسية بشكل متزايد، وانهيارا وجدانيا كلما زاد الضغط.. هنا فقط، سيتحدث البطلان إلى والده (وإذن لم يكونوا قد أخذوا رأي أسرته في أمر سَوقه إلى المدرسة!)، ومع الوالد، يتكشف أن رؤوف طالما أحب المدرسة، إلى أن قصفت مدرسته في سوريا. لقد كان السبب في هذا الخوف اضطرابات ما بعد الصدمة.
ما إن تستقر في أفهامنا هذه المعلومة الضرورية، حتى تحدّق الكاميرا في عيني كريس، حمراوين تنتفخان بالمواجد، ولتُسْفحَ معهما دقيقتان أخريان على شرف صدمة الأميركي الأبيض الوسطوي، وقلبه الذي لم يعد يحتمل. لا ألم رؤوف، ولا آلامٌ سورية أخرى، بل ألم كريس الحساس هو ما وجب علينا تأمله..
هل من الضروري ذكر أن والد رؤوف لا يعود ليظهر، في أي من المشاهد اللاحقة؟ يبدو كل شيء بديهيا ومفهوما، فالأمر لا يتعلق بالطفل ولا بوالده، أصلا، ومنذ البداية!

في خضم دردشاتٍ أعقبت العرض، كان سؤال واحد، ذا صلة بحقيقة المشكلة: "ما احتمال أن يكون الفيلم معبرا عن النبرة الاستعمارية المتعالية، ويعكس عدم توازنٍ في القوى كان هو العنصر الحاسم لصنع الفيلم "الوثائقي"؟
الجواب، كان هذا: لم نكن نحتاج إلى أي تحضيرات، كان الأمر سهلا. وفور ظهورنا هناك، كان الجوّ مرحّبا تماما"..
كانت غالبية التعليقات الأخرى إيجابية بحق الفيلم. "الجميع من حولي كانوا يبكون!"، "لقد عملت في الزعتري, وكان حلمي أن أصنع فيلما مثل هذا."; "من شأن أفلام من هذا النوع، أن تجعل الأميركيين يتفهمو ن حاجة أميركا إلى اللاجئين السوريين".. تعليقات تنم عن أن منظومة المؤسسات والنشطاء الليبراليين في أيامنا هذه، تدير بذكاء عملية الترويج، وصناعة المعونة، ممتلكة قدرا لا بأس به من الإقناع بالنسبة إلى كثيرين، ومنخرطة في جمع الأموال لأعداد كبيرة من اللاجئين. وهذا، بالضبط، هو ما يخيف في الأمر.

هدف (كريس) و(زاك) من وراء ما قاما به من "تدخل"، لإجلاء صورة الزعتري أمام مواطنيهما الآخرين الأميركيين البيض الوسطويين أن اللاجئين السوريين هم بشر أيضا مثلنا تماما!

المناخ العام من الحب، والألعاب والتسالي، سوريات ينتجن منتوجاتٍ يدوية فنية، وسوريون تزدهر حالتهم الاقتصادية شيئا فشيئا داخل مخيم اللاجئين.
كلها قد تكون، بل هي قصص حقيقية، لكن الجناية على الحقيقة تحدث بالضبط هناك: حيثما تُطمس الحقائق الكبرى من أجل المشهد السعيد. بهذا المعنى، فإن إظهار الزعتري حيا حلوا يلهو ويزدهر، وعبر اقتلاع صورة الفقر والجوع من المشهد العام، ولتجاهلٍ مخزٍ لمسائل الاتجار الجنسي والعنف متعدد المستويات.. وفي مسار إقناع أميركيين بأن يبرعوا الآن من أجل اللاجئين، فإن تساؤلات أخلاقية جادة، تلوّح من وراء الموقف ضاغطةً بشدة لكي تُسأل..

حظي فيلم "سلام يا جار" حتى الآن، بعرض واحد فقط في عمّان بالأردن، يوم الـ13 من يوليو 2016، بعد أن كان عرض في 300 موقعا في جميع أنحاء أمريكا. إنها عملية بدأت في المواطن الأميركي وانتهت به، من أجل "التوحد لإظهار الدعم للسوريين، بعيون أميركية".. أو شيءٍ من هذا القبيل.. في عرض الفيلم في عمان، واقفت لبعض الوقت أصدقاء أردنيين أكدوا استياءهم بصدد الفيلم، الذي سطا على ما يبدو على لقطات من عاصفة رملية، كان صاحب الصور قد خاطر بحياته من اجل التقاطها، دون أن ينال شرف ذكر اسمه..
يخبرني الأصدقاء الأردنيون، أن تضحيات حقيقية يجب تقديمها في وجه الحكومة، إذا رغبوا في الدخول إلى الزعتري.. لا تبدأ بالتهديد بالإيذاء المباشر، ولا تنتهي بالرقابة الصارمة والتحكم في الحركة، وتقييد الحريات المدنية، لذلك فإن الأردني لن يغامر بلفت النظر إلى اسمه، على شارة الفيلم، مفضلا بيع الصور إلى الأميركيين لا اكثر، والذين من جهتهم، لا يبدون مبالغين في الاكتراث بالجوانب الأخلاقية للعمل.
وأما من اجل أن يكونا "صحيحين سياسيا"، فإن (زاك) و(كريس) يمنحاننا ابتسامة: "يا رجل لقد بجثنا عنك طويلا". كان بإمكانهما أن يفعلا الشيء الكثير، مما لم يفعلاه.. فيما أوضح المنتج، أن جميع خطوات الترخيص تمت بشكل سليم.
الفيلم الذي أُخرست فيه قصص غير جذابة، تعرض البؤس والجراح النازفة وعذابات الآخرين، يمكن القول إنه نجح.. طالما لم يكن يستهدف أصلا أي شخص خارج فئة السائح الأميركي.. بل قل ليس مستغرَبا، أبدا، لربما، أن يكون أي انتقاد غيرَ مرغوب فيه، فهذا ليس فيلما من ذلك النوع الذي قد تنتقده..