كيف يتكلم البلطجي: حكاية من بلادي
مقدمة
عالج كارل يونغ، أحد المسهمين الأوائل في مدرسة التحليل النفسي، على طول أعماله تقريبا مسألة بلاغة السايكوباث، ولربما هو مبتدع هذا المبحث. من أهم ما أفضت إليه ملاحظاته العيادية تمكنه من بناء تصور متماسك لـ اللاوعي بما هو ميكانيزم جماعي وقبل- شخصي. مفهومٌ استثنائي للاوعي يتناقض والبنيةَ التي افترض فرويد وجودها: حصيلة شخصية للمكبوتات الأسرية بالدرجة الأولى.
يؤكد يونغ أن لاوعيا جمعيا هو سابق على شخصية المرء، يعمل بإنتاجية عالية وحركية ذات قوة قهرية في أماكن مخفية من النفس، تماما كما هي مجتمعات البشر، إنتاجية وحركيّة وقاهرة، وتفعل في "الفرد" من حيث لا يدري.
المجتمع، ذلك الذي يكاد لا يمكن الإمساك أو الإحاطة به في حيويته وتحوله المستمر، والذي ضمنه يعي الأفراد ذواتهم وعالمهم، مثله وراء وعي الفرد لاوعي إنتاجي: دفق رغائب وأهواء واندفاعات واستنارات غريزية وطرازات أولية من الصور الدفينة الملهمة، ميكانيزم طبيعي عارم وديمومي يقبع في عمق الشكل الذي استقر عليه التطور السيكولوجي للإنسان كما نعرفه.
يشدد يونغ أيضا، في نفس الوقت، على أن اللاوعي الجمعي ليس مفهوما معقدا، إنه ببساطة لاوعي الجميع وليس أحدا بعينه. من (جدلية الأنا واللاوعي)، بعد شرح حالة جنون عظمة تعامل معها:
(بالطبع، قد يرجع تضخم الأنا في حالات أخرى إلى عوامل غير المقامات الاجتماعية، الأدوار الاجتماعية، والألقاب، والمسمَّيات الجذابة، لكن هذه العوامل هي القوة اللاشخصية للحياة في المجتمع، الدينامية الجماعية للوعي المشترك للكل، وكما يتجلى وراء الفرد مجتمع، يوجد أيضا في ما وراء النفسية الشخصية لكلٍّ منا نفس إنسانية جماعية تمتلك بؤر جاذبية ليست أقل قوة).
ليست رؤى السايكوباث مما هو غريب عن أي منا، إنها العقل الذي يتفتح في عوالم نومنا وإغماضنا وشرودنا حين يستحكم، عقل مجنون، حين يرى فليس إلا عبر (تلك التمثيلات الجماعية ذات الملامح والقدرات الجاذبة، منشأ الأمثال والتحكيمات الشعبية الأكثر قِدَما، التصورات البدئية الكامنة والتي تعمل دون حاجة إلى إظهارها..). الأمثولة الشعبية التي تبقى، وقوة الأسماء الحرّيفة لمعاني كبيرة، وفهم رومانسي تماما للحياة، كلها تتصل بالعوالم السابقة على إنسان الحضارة، والفاعلة في ثقافة مجتمعات الأسطورة، شكْل نفس الإنسان قبل وعيه بذاته كفاعل في الطبيعة وكمتحضر، الإنسان في صيرورته الحيوانية عاريةً، محتفَظا به داخل طرائق فهم امتثالية للعالم الطبيعي يرثها ويورثها كما ترث القطط معلوماتها الضرورية للتصرف. غالبا لا تتوارث القطط أي معلومات عمّن تكون وما هو العالم.
هذه الأشكال القبل حضارية من الفهم فرضت نفسها بقوة دائما في المجتمعات الوثنية والتوحيدية وفي مجتمعاتنا الحديثة أيضا حيث أن (معظمنا، ليس حتى اليوم أكثر أو أقل من الأهمية التي حددها له المجتمع..)، حسب يونغ.
في بلاغة السايكوباث يهمنا، أن من يتكلم عندما يتكلم المجنون، هو الجنون وليس الشخص. هذا الجنون هو اللاوعي في صيغته الحرة، التي لا ينهض وعي أحدنا بنفسه وبعالمه، إلا بانكتامها وراء جدران صلبة. اللاوعي الجمعي، بمجاز تمثيلي يقلب الأدوار ما إن ينتصر، ليَحدث الخلل بخضوع بنية الوعي لصالح ما ليس صالحا.
بلاغة السايكوباث هي بلاغة امّحائه داخل سديم (CHAOS) عين الحيوان. وحال الجنون يُبْلغ، لو نظرنا إلى بلاغة حال، ولكن مجنون العظمة ليس بليغا، البلاغة تتوقف عن أن تُبلغ ما إن ننظر إليها كبلاغة للشخص. وهو ما يحدث عادةً، ذلك أننا كثيرا ما نسارع إلى محو السايكوباث في مصحات قمعية بمجرد أن يمّحي وراء الرؤى المتلاحقة المتكررة بطقوسية سرعان ما تصير مملة وباعثة على الأسى.
"ضربات"..
اللهو الخفي- اسم زعيم عصابة مستعارا من مسرحية كوميدية شعبية شهيرة، كان رائجا في الأوساط الحزبية والشبابية، للإشارة إلى أعداد كبيرة من العناصر الأمنية غير الرسمية، تتولى القمع العنيف للمظاهرات والاعتصامات التي لم تتوقف منذ 2011 وحتى إحكام القبضة العسكرية من جديد، بعد انقلاب عام 2013.
يعود "اللهو الخفي" ليتوكّد حين يعتمده البلطجي: الشبيح، المواطن "الشريف" الذي يُجمَع في اللغة المصرية على "أهالٍ"، وقد تأتّى له التعريف بنفسه أمام كاميرا، مؤكدا لنا كونه الطرف الثالث، الذي يتحدث عنه الجميع.
كشف عالم "الربيع العربي" عن هذا المدني الزاهد في مسألة الحق المدني، والمنفتح على الأعمال العنيفة ذات الطابع الإجرامي، الأعمال القذرة الكفيلة باستدامة السلطة القمعية القائمة، وتحقيق منافع شخصية له عبر الاستيلاء بالقوة على حياة وممتلكات مدنيين آخرين يهددون النظام، والانتفاع من فتات الفساد الحكومي.
هذه القوة -النشطة في إخماد كل محاولات استيقاد نضال ثوري في المجتمع المصري- هي الأخرى تعيش الصراع من وجهة نظر ما، كما تود أن تخبر على لسان من يبدو أحد أبطالها، فما هي وجهة نظر البلطجي السايكوباث، أو جنونـنا الشاخص فيه أو "جاهليتنا"، وما الذي به يفخر، وانتقامَ من يحقق، ولحساب من يعمل؟
في اعتدادِ إله وبلغة تحاول التلميح والتلغيز، يحلو لـ"جابر النمر" استعراض انتصاره علينا لينكص على عقبيه بعدها ويندفع خارجا من حيز الكاميرا، في حركة- توقيع، تتكرر في نهاية معظم المقاطع المصورة.
"اللهو الخفي اللي بيضرب ضرَبات..": الظهور والغياب مثلَ شبح الأقدار يحسم صراع الدولة البوليسية والمطالبين بالحقوق، الضرب ضربةً والاختفاء هما ما يصنعان خصوصية وشبحية صاحبنا. ليس من المبالغ فيه، القول إنها كما يحاول تقديمها، غزوة الإنسان الأول، غزوة الحيوان المتربص في غابةٍ لا ترحم، وغزوةُ الصعلوك- المنشق عن قبيلة قافلا إلى العراء، غزوته التي تصيبنا غيلةً فتظفر.
في مواضع متعددة من أحاديثه، يطّرد ذكر حسني مبارك، التكثيف الأعلى للدولة وجبروت هيبتها، بصفته ندّه الوحيد.. كانت الدولة، بصورة من الصور وعلى ما يَبين من السياق، مُخضِعةً "اللهو الخفي" لرقابتها الكاملة، الأمر الذي لنا أن نتصور حدوثه في قسم شرطة من أقسام وزارة الداخلية، هناك، بالإضافة إلى مواقع أخرى داخل مؤسسة الدولة حيث يبدأ إعداد كتائب القمع الخاصة هذه، وتجنيدها. بهذا الخصوص، فإن فيلم "المندس" الذي صوره الناشط مهند جلال، خلال اندساسه بين صفوف البلطجية الذين يتولون القمع المباشر، يقدم شهادة لابأس بها عن هذه الصناعة الدموية.
"اللهو الخفي" هو الذي أجاد اللعب حين فشلت ألعاب الجميع، على الأقل في رأيه. من وجهة نظر موضوعية، ليست لعبته أنجح من سواها، فهو أيضا مهزوم، طوال الوقت تندفع رغبته المتواصلة في فضح ناس طحنوه. وبينما ينتهي استعراض اللهو الخفي أمام الكاميرا، تتواصل مأساةُ حياته التي لم تصبح أفضل، والتي فقدت ألقها، ورمته مختلا ظريفا تترصده كاميرات الناشطين.
من المهم هنا، الإشارة إلى أن الرجل، حين يذكر الثورة مردفَةً بتصحيح: "الثورة دى، الانقلاب ده" فإنه يقيم تمييزا صارما عن الثورة التي هي ثورة، وهي نشاطات الثوريين المصريين الذين يستغبيهم، فهو أجاد أن يلعب دورا سياسيا ليس الثورة ولا النظام، بل الوحش المتوحد الفائز بفريسة لا يكترث لسواها. يحلو لجابر النمر أن يردد: "عملتو ثورة عملتلكو لهو خفي"..
سيكوباتي نمرود آخر، تفاخر ضمنا ذات يوم، بقدرته على التملص من كل ميثاقٍ عقْدي، تفاخر باللهو والخفاء: "أنا لو عندي منصب كنت لوحت الاستقالة في وجوهكم". نفس السخرية من الميثاقية بذاتها، كان القذافي قد كررها بصفته أعلى من التعاقدات والعهود حين طوّح بميثاق الأمم المتحدة، منتظرا تصفيقا طويلا لا ينتهي: الإيغو- كرات العربي البائس نفسه، والذي ليس أكثر من بلطجي، وهو يؤدي رقصته، استعراضه، لحظته المنتظرة. لا يبدو "ملك ملوك افريقيا" مختلفا كثيرا عن "اللهو الخفي".
.. إذن فهو الذي راقب من راقبوه، وهو الذي يعلم جيدا "الناس اللي عملوا الانقلاب ده". يظن اللهو أنه وحده من يعلم بكون أحداث 2013 انقلابا مرتبا، يشير ذلك إلى انعدام الحس السياسي لدى الوسط الذي يخاطبه بحديثه، مجموع من يفترض أن تصدمهم هذه الحقيقة، من "إخوته"، الذين أجاد خيانتهم والنجاة.
يبدأ اللهو الخفي عرضه في مقطع آخر بجمل متقطعة تتدافع عبرها بلاغة الحال حاذقة تارة، وأقل حذاقة تارة أخرى. يشعر بقوة، بأنه يعرف كل شيء عن السياسة في مصر. اشتغاله في الكواليس المستنقعية للدولة المصرية، هناك حيث يجري ترتيب القمع بأكثر الطرق وحشيةً، مكنه من إدراك تفاهة مسألة انتخاب رئيس في دولةٍ هي هذه.
عدا ذلك، الكلام الأخير يشير إلى الاختلاط الفادح في الأزمنة، الذي تقوم عليه ذات متورمة ترى نفسها خارج التواريخ، ليكون الفارق بينه وبين السيسي، أن الأخير، هو من أيام عبد الناصر -يتبع أسلوبا قديما- أما اللهو فمن أيام حسني مبارك "واحلى اربع سنين قبل الثورة عاملهم".
وعن قناة الأسبوع التي ذكرها مرتين، مرةً على أنه تردد عليها، ومرةً على أنه ينوي الظهور هناك ليقول ما لديه، فهي القناة المملوكة للإعلامي الفلولي مصطفى بكري.. يشرح هذا شيئا. لكن هناك ما هو أهم: فـ"الشيوخ اللي راحوا عند وزارة الدفاع اخر مرة بتوع حازمون"، ليست قصة بهذه البساطة والابتسار. إنه يشير إلى ما يعرف بأحداث العباسية الثانية.
كان عدد من الشباب الإسلامي الثوري بعد ثورة يناير، قد وجد نفسه في ممثلٍ غير تقليدي، كما بدا الأمر حينها على الأقل: حازم صلاح أبو اسماعيل، الإسلامي الشعبوي المثير للجدل. تورطت هذه المجموعة الخاصة من الإسلاميين سريعا وباختيارها بالاصطدام بحكم العسكر، وكان شباب الحركات الثورية المصرية على اختلاف تلوناتها، من الاشتراكيين الثوريين ذوي المرجعية الماركسية، إلى ائتلاف شباب الثورة ذي المرجعية الوطنية وحركة 6 أبريل ذات الأصول النقابية، هؤلاء جميعا كانوا متحمسين للإسقاط الفوري لحكم المجلس العسكري، وكانوا جزءا من الاعتصام الذي أشعل الأحداث أمام وزارة الدفاع.
في خضم تحضيرات المجلس العسكري للانتخابات الرئاسية التي فاز فيها، لاحقا، مرشح الإخوان المسلمين محمد مرسي، اعتصم "حازمون" ضد قرار قضائي يبطل ترشيح رجلهم، حازم أبو اسماعيل لهذه الانتخابات.
كان الاعتصام أمام وزارة الدفاع مغريا لجميع الغاضبين. عملت الماكينة الإعلامية الفلولية على شيطنة كل ما من شأنه المس بهيبة المؤسسة العسكرية، وقيلَ كل شيء ضد حازمون، الذين فاقموا الأمر بدورهم، حين زار الاعتصام محمد الظواهري، شقيق أيمن الظواهري، واستعرض أنصاره وراياتٍ قاعدية.
ناشد إعلاميون "أهالي العباسية" على التلفزيون، التصدي للإرهاب الإسلامي في الاعتصام، الاعتصام الذي تروي شهادات من عاشوه أنه شهد ثباتا مشرِّفا قاوم خلاله ناشطو الثورة حتى الساعات الأخيرة حين أصبحت المشكلة بين الدولة وتنظيم القاعدة. ولقد انقضت الساعات الأخيرة بدموية، حيث فُض الموقف بعد قتل عشرات المعتصمين وجرح المئات: هذا، يعرف اللهو الخفي كيفية حصوله.
وعن "السحابة"، رشوة رخيصة مشهورة في مصر، يكثر أن يتلقاها البلطجية بشكل مدروس وموجه ناشطاتٌ مصريات لسن أقل شجاعة أبدا، أخبرننا بشهادة مهمة. فقد تعرّضت عشرات من عموم الناس في ميدان التحرير، في 2013 للتحرش والاغتصاب حين اجتاحت قطعان من المتحرشين التجمعات المليونية. أكّدن جميعا وقوع البلطجية تحت تأثير أنواع حادة جدا من المهيِّجات. المخدرات جزء شائع من الاتفاق بين الدولة والبلطجي، والسحابة مكان جميل، محلّىً ههنا بلذة القتل، والتي هي لذة لدى كثيرين.
كانوا كثيرين حقا.. في كل مرة كانوا كثيرين.
خواتيم
وإذن، كيف يتكلم البلطجي؟ ليس البلطجي، كما استطعنا أن نرى، صالحا للتفكير والتقرير بل هو رجل مريض يستحق قسطا من التفهم ومُقاماً بحيث لا يقتل، وأما هذا الجنون القاتل الذي صادر "جابر النمر" وأحلّ فيه "اللهو الخفي"، وتولى القول عبره ساخرا منا فلا يخص شخصا، بل يخص مجتمعا مأزوما يواصل إنتاج قتلة وفصاميين، وتشتد أزمته إلى مراحل لا تصدَّق، وهذا ليس مجازا.
طوال العروض التي قدمها الإعلامي المصري الساخر باسم يوسف، أثارت شخصية "جماهير" -بدون الـ التعريف وبلفظ محلي قاهري يحيل وقع الكلمة ليبدو اسم علم لامرأة- مشاكل هي الأكثر حدة مع إعلام الفلول، فـ جماهير هي أنثى خاضعة ومعذّبة، لم تستطع أن تركن إلى رجل واحد، بعد أن تركت زوجها العسكري الذي اقترنت به طويلا، ثم لم تنجح تجربتها مع رجل إسلامي، ففضلت الزواج من عسكري مرة أخرى. اعتُبرت الشخصية طبعا إهانةً للجماهير.
ما إن عاد الحكم العسكري، وعادت "جماهير" للظهور حتى أغلقت الدولة برنامج باسم يوسف. نعرف جميعنا أن الجماهير ليست في وضع يسمح لها بالاستياء، إنها معَدّة لتوافق، وإنما ولي أمرها العسكري هو الذي تأذى، فوجب أن تعرض الزوجة الطيبة تأذيها.
استخدمت حنة ارندت في أصول الدولة الشمولية مفهوم إنسان الجماهير، لفهم الكيفية التي أنتجت الجمهور الملائم لتطلعات النازية. لاحظت أن عرَضا أساسيا عابرا لأوربا، بعد الانهيار الاقتصادي الشامل أواخر عشرينيات القرن الماضي، تجلى شعورا عدميا بالمرارة الفردية لدى أعداد كبيرة بنفس الطريقة وأشكال التعبير المقتضَبة، وأفضى إلى ظاهرة كاسحة عابرة للمجتمعات الصناعية تخلى فيها ملايين الأشخاص عن اقتناعهم بحقهم السياسي في التفكير وخدمة مصالحهم بحرية، وقدّموا مجانا أثمن ما يمكن أن تطمح إليه القوى التقليدية في لحظة انهيار: الخضوع للتأثير الأيديولوجي الرومانسي بصفته حلا سايكولوجيا ذلك -وهي النقطة التي يجهّرها بطلنا البلطجي- مع شعورهم جميعا بحمل نزوع فردي جذري حاقد على المجتمع.
الانهيار الاجتماعي، بما رتّبه من انهيار تراجيدي في الشعور بقيمة الذات لدى كثيرين، لبّته نزعة فردية اشتغلت كغطاء إنكاري للإحساس بامتهان الذات، لتقترح النازية نفسها في شكل صعود، مقدمةً حلّا بدا سحريا لجماهير الخاسرين: أيديولوجيا موضوعها الانتصار.
لم يستطع هؤلاء الفرديون الحانقون في أثناء اكتشافهم أنفسَهم ضد المجتمع، ورغم كثرتهم وتواتر حالتهم، إقامة أي ناد اجتماعي أو أدبي أو سياسي كما لاحظت حنة، ففي الواقع كانوا في وارد آخر: وضعية عطب حيوي عميق تتقنع بوعي متورم بالذات الفردية، تنتشر بالعدوى كجائحة، وانخفاض في شدة دوافع الحياة في نفس الشخص -أي صعود لدوافع الموت والارتكاس- سبّبها الانهيار الاقتصادي. كان النادي السياسي بين ضحايا الانهيار، فلا تشكيلات سياسية قوية يجد عبرها الأشخاص المأزومون منفذا إلى الفعل. انطوت الأحزاب والنقابات على محافظتها ومصالح نخبها، بينما للأسباب إياها لم يتنادَ الكثيرون إياهم، فهم أكثر فأكثر مع تفاقم حالة انكسارهم، خارج النادي السياسي، المكون من مواطنين، بطبيعة الحال، لا من آلهة مهزومة.
أي من منظور ارنت، صار عدد كبير مرجِّح من الأوربيين، إلى الترحيب بإمكان موتهم وموت الآخرين، حالما احتاجت القوى التقليدية المنتجة للشمولية، إلى أعداد كبيرة من الموافقين، المستعدين للقتل وللموت. كان الإعلاء العصابي لمنطق التضحية بالذات ولهوس نزع الإنسانية عن الآخرين، كناية أخيرة عن انتصار الموت. هان الواحد منهم على نفسه شارحا الأمر كحقد على العالم، وتنازل عن حياته في العالم: الكلام والتفكير والفعل، ليتسنى للنازية أن تقول إن الجماهير قالت كلمتها.